فصل: القِسْم الثَّالث: الإجَازة

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: تدريب الرَّاوي في شَرْح تَقْريب النَّواوى ***


القِسْم الثَّالث‏:‏ الإجَازة

وهي أضْرُبٌ‏:‏

الأوَّل‏:‏ أن يُجيز مُعَينًا لمُعَيَّن، كأجزتُكَ البُخَاريَّ، أو ما اشْتَملت عليه فهرستي، وهذا أعْلَى أضْرُبها المُجَردة عن المُنَاولة، والصَّحيح الَّذي قالهُ الجمهُور من الطَّوائف واستقرَّ عليه العملُ جَوَازُ الرِّواية والعمل بهَا‏.‏

القِسْم الثَّالث من أقسام التحمُّل الإجَازة، وهي أضْرُب تسعة، وذكرها المُصنِّف كابن الصَّلاح سَبْعة‏:‏

الأوَّل‏:‏ أن يُجيز مُعينًا لمُعيَّن، كأجزتكَ أو أجزتكُم، أو أجزت فُلانا الفُلاني البخاري، أو ما اشتملت عليه فهرستي أي‏:‏ جُملة عدد مَرْوياتي، قال صاحب «تثقيف اللِّسان»‏:‏ الصَّواب أنَّها بالمُثَناة الفَوْقية، وقُوفًا وإدْمَاجًا، وربَّما وقفَ عليها بعضهم بالهاء وهو خطأ، قال‏:‏ ومعناها جُمْلة العدد للكتب، لفظة فارسية‏.‏

وهذا أعْلَى أضْرُبها أي الإجَازة المُجَرَّدة عن المُنَاولة، والصَّحيح الَّذي قالهُ الجمهور من الطَّوائف أهل الحديث وغيرهم واستقرَّ عليه العمل جَوَاز الرِّواية والعمل بها‏.‏

وادَّعى أبو الوليد البَاجي وعِيَاض الإجماع عليها، وقصر أبو مروان الطبني الصحَّة عليها‏.‏

وأبْطَلَها جماعاتٌ من الطَّوائف، وهو إحْدَى الرِّوايتين عن الشَّافعيِّ، وقال بعضُ الظَّاهرية ومُتَابعيهم‏:‏ لا يُعملُ بهَا كالمُرْسل، وهَذَا باطلٌ‏.‏

وأبطَلَها جماعات من الطَّوائف من المُحدِّثين كشُعبة- قال‏:‏ لو جَازت الإجَازة لبَطَلت الرِّحلة- وإبراهيم الحَرْبي، وأبو نصر الوائلي، وأبي الشَّيخ الأصبهاني، والفقهاء، كالقاضي حُسَين، والمَاوردي، وأبي بكر الخَجَندي الشَّافعي، وأبي طاهر الدبَّاس الحَنَفي‏.‏

وعنهم أنَّ من قال لغيره‏:‏ أجزتُ لكَ أن تروي عنِّي ما لم تَسْمع، فكأنَّه قال‏:‏ أجزتُ لك أن تَكْذب عليَّ، لأنَّ الشَّرع لا يُبيح رِوَاية ما لم يَسْمع‏.‏

وهو إحدى الرِّوايتين عن الشَّافعي وحكاهُ الآمدي عن أبي حنيفة وأبي يُوسف، ونقله القاضي عبد الوهاب عن مالك‏.‏

وقال ابن حزم‏:‏ إنَّها بدعة غير جائزة‏.‏

وقيل‏:‏ إنَّ كان المُجيز والمُجَاز عالمين بالكتاب جَاز، وإلاَّ فلا، واختارهُ أبو بكر الرَّازي من الحَنفية‏.‏

وقال بعض الظَّاهرية ومُتَابعيهم‏:‏ لا يعمل بها أي‏:‏ بالمَرْوي بها كالمُرْسل مع جواز التحديث بها وهذا باطل لأنَّه ليس في الإجَازة ما يقدح في اتِّصال المنقول بها، وفي الثِّقة بها‏.‏

وعن الأوزاعي عكس ذلك، وهو العمل بها دون التحديث‏.‏

قال ابن الصَّلاح‏:‏ وفي الاحتجاج لتجويزها غُموض، ويتجه أن يُقال‏:‏ إذا جاز له أن يروي عنه مروياته، فقد أخبره بها جُمْلة، فهو كما لو أخبره بها تفصيلاً، وإخباره بها غير متوقف على التصريح قَطْعًا، كما في القِرَاءة، وإنَّما الغرض حُصُول الإفهام والفهم، وذلك حاصلٌ بالإجَازة المُفْهمة‏.‏

وقال الخطيب في «الكِفَاية»‏:‏ احتجَّ بعض أهل العلم لجَوَازها بحديث‏:‏ أنَّ النَّبي صلى الله عليه وسلم كتبَ سُورة براءة في صحيفة، ودفعهَا لأبي بكر، ثمَّ بعثَ علي بن أبي طالب فأخذهَا منهُ ولم يقرأها عليه، ولا هو أيضًا حتَّى وصل إلى مَكَّة ففتحها وقرأهَا على النَّاس‏.‏

وقد أسندَ الرَّامهرمزي عن الشَّافعي‏:‏ أنَّ الكرابيسي أراد أن يقرأ عليه كُتبه، فأبى وقال‏:‏ خُذْ كُتب الزَّعفراني فانْسَخها، فقد أجزتُ لك، فأخذها إجَازة‏.‏

أمَّا الإجَازة المُقْترنة بالمُنَاولة فستأتي في القِسْم الرَّابع‏.‏

تنبيه‏:‏

إذا قُلنا بصحَّة الإجَازة، فالمُتبادر إلى الأذْهَان أنَّها دُون العرض، وهو الحق، وقد حكى الزَّركشي في ذلك مذاهب‏.‏

ثانيها- ونسبهُ لأحمد بن مَيْسرة المَالكي‏:‏ أنَّها على وجهها خير من السَّماع الرَّديء، قال‏:‏ واخْتَار بعض المُحقِّقين تفضيل الإجَازة على السَّماع مُطْلقًا‏.‏

ثالثها‏:‏ أنَّهما سَوَاء حكى ابن عات في «رَيْحَانة النَّفس» عن عبد الرَّحمن بن أحمد بن بَقِي بن مَخْلد أنَّه كان يَقُول‏:‏ الإجَازة عِنْدي وعند أبي وجَدِّي كالسَّماع‏.‏

وقال الطُّوفي‏:‏ الحق التَّفصيل، ففي عصر السَّلف السَّماع أولى، وأمَّا بعد أن دُوِّنت الدَّواوين، وجُمعت السُّنن واشتهرت، فلا فرق بينهما‏.‏

الضَّربُ الثَّاني‏:‏ يُجيزُ مُعينًا غيرهُ، كأجزتُكَ مَسْموعَاتي، فالخِلافُ فيه أقْوَى وأكْثرُ، والجُمهور من الطَّوائف جَوَّزوا الرِّواية وأوجَبُوا العملَ بهَا‏.‏

الثَّالث‏:‏ يُجيزُ غيرَ مُعيَّن بوصفِ العُمُوم، كأجزتُ المُسْلمين، أو كلَّ أحد، أو أهلَ زَمَاني، وفيه خِلافٌ للمتأخِّرين، فإن قَيَّدها بوصف حَاصرٍ، فأقربُ إلى الجَوَاز‏.‏

الضَّرب الثَّاني‏:‏ يُجيز مُعينا غيره أي غير مُعين كأجزتك أو أخبرتكم جميع مسموعاتي أو مروياتي فالخلاف فيه أي في جَوَازها أقوى وأكثر من الضَّرب الأوَّل‏.‏

والجمهُور من الطَّوائف جوزوا الرِّواية بها فأوجبوا العمل بما رُوي بها بشرطه‏.‏

الثَّالث‏:‏ يُجيز غير مُعيَّن بوصْفِ العُموم كأجزت جميع المسلمين، أو كل أحد، أو أهل زماني، وفيه خلاف للمتأخِّرين، فإن قيَّدها أي‏:‏ الإجازة العامة بوصف حاصر كأجزتُ طَلَبة العِلْم ببلد كَذَا، أو من قرأ عليَّ قبل هذا فأقرب إلى الجَوَاز من غير المُقيدة بذلك‏.‏

بل قال القاضي عياض‏:‏ ما أظنهم اختلفُوا في جواز ذلك، ولا رأيت منعه لأحد، لأنَّه محصور موصوف، كقوله‏:‏ لأولاد فُلان، أو إخوة فُلان‏.‏

واحترز بقوله‏:‏ حاصر، ما لا حصر فيه، كأهل بلد كذا، فهو كالعامة المُطْلقة‏.‏

وأفرد القَسْطلاني هذه بنوع مُستقل، ومثَّله بأهل بلد مُعيَّن، أو إقليم، أو مَذْهب مُعيَّن‏.‏

ومن المُجَوِّزين‏:‏ القاضي أبو الطَّيب، والخطيب، وأبو عبد الله بن مَنْده، وابن عتَّاب، والحافظُ أبو العلاء، وآخرون‏.‏

ومن المُجوِّزين للعامة المُطلقة القاضي أبو الطَّيب الطَّبري والخطيب البغدادي وأبو عبد الله بن مَنْده وأبو عبد الله ابن عتَّاب، والحافظ أبو العلاء الحسن بن أحمد العطَّار الهمداني وآخرون كأبي الفضل بن خيرون، وأبي الوليد ابن رشد، والسَّلفي، وخلائق جمعهم بعضهم في مُجلد، ورتَّبهم على حروف المعجم لكثرتهم‏.‏

قال الشَّيخ‏:‏ ولم نسمع عن أحَدٍ يُقْتدَى به الرِّواية بهذه‏.‏

قلتُ‏:‏ الظَّاهر من كلام مُصحِّحها جَوَاز الرِّواية بهَا، وهذا مُقتضى صِحَّتها، وأيُّ فائدةٍ لهَا غيرُ الرِّواية بِهَا‏.‏

قال الشَّيخ ابن الصَّلاح ميلاً إلى المَنْع‏:‏ ولم نَسْمع عن أحد يُقتدى به الرِّواية بهذه قال‏:‏ والإجَازة في أصلها ضعيفة، وتَزْداد بهذا التَّوسع والاسْترسَال ضعفًا كثيرًا‏.‏

قال المُصنِّف قلت‏:‏ الظَّاهر من كلام مُصححها جَوَاز الرِّواية بها، وهذا مقتضى صحتها، وأي فائدة لها غير الرِّواية بها وكذا صرَّح في «الرَّوضة» بتصحيح صحتها‏.‏

قال العِرَاقيُّ‏:‏ وقد روى بها من المُتقدِّمين الحافظ أبو بكر بن خير، ومن المتأخِّرين الشرف الدمياطي وغيره‏.‏

وصحَّحها أيضًا ابن الحاجب، قال‏:‏ وبالجملة ففي النَّفس من الرِّواية بها شيء، والأحْوط ترك الرِّواية بها، قال‏:‏ إلاَّ المُقيَّدة بنوع حصر، فإنَّ الصَّحيح جَوَازها‏.‏ انتهى‏.‏

وكذا قال شيخ الإسْلام في العَامة المُطْلقة قال‏:‏ إلاَّ أنَّ الرِّواية بها في الجُمْلة أولى من إيْرَاد الحديث مُعْضلاً‏.‏

قال البَلْقيني‏:‏ وما قيل من أنَّ أصل الإجَازة العامة ما ذكرهُ ابن سعد في «الطبقات»‏:‏ حدَّثنا عفَّان، حدَّثنا حمَّاد، حدَّثنا علي بن زيد، عن أبي رافع، أنَّ عمر بن الخطَّاب قال‏:‏ من أدركَ وفاتي من سبي العرب فهو حُر‏.‏ ليس فيه دلالة، لأنَّ العتق النافذ لا يحتاج إلى ضبط، وتحديث، وعمل، بخلاف الإجَازة ففيها تحديث، وعمل، وضبط، فلا يصح أن يَكُون ذلك دليلاً لهذا، ولو جُعل دليله ما صحَّ من قول النَّبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ «بَلِّغُوا عنِّي‏.‏‏.‏‏.‏» الحديث، لكان له وجه قوي‏.‏ انتهى‏.‏

فائدةٌ‏:‏

قال شيخ الإسلام في «معجمه»‏:‏ كان محمَّد بن أحمد بن عزَّام الإسكندري يقول‏:‏ إذَا سمعت الحديث من شيخ، وأجازنيه شيخ آخر، سمعه من شيخ، رواه الأوَّل عنه بالإجَازة، فشيخ السَّماع يروي عن شيخ الإجَازة، وشيخ الإجَازة يرويه عن ذلك الشيخ بعينه بالسَّماع، كان ذلك في حُكم السَّماع على السَّماع‏.‏ انتهى‏.‏

وشيخ الإسْلام يصنع ذلك كثيرًا في أماليه وتخاريجه‏.‏

قلت‏:‏ فظهرَ لي من هذا القول أن يُقال‏:‏ إذا رويت عن شيخ بالإجَازة الخاصة، عن شيخ بالإجَازة العامة، وعن آخر بالإجَازة العامة، عن ذلك الشيخ بعينه بالإجَازة الخاصة، كان ذلك في حُكم الإجازة الخاصة، عن الإجازة الخاصة‏.‏

مثال ذلك‏:‏ أن أروي عن شيخنا أبي عبد الله محمَّد بن محمد التنكزي، وقد سمعتُ عليه، وأجاز لي خاصة عن الشَّيخ جمال الدِّين الأسْنوي، فإنَّه أدركَ حياتهُ ولم يجزهُ خاصة، وأروي عن الشَّيخ أبي الفَتْح المَرَاغي بالإجَازة العامة، عن الأسْنوي بالخاصة‏.‏

الرَّابع‏:‏ إجَازةٌ بمجهُولٍ، أو له، كأجزتُكَ كتاب السُّنن، وهو يَرْوي كُتبًا في السُّنن، أو أجزتُ لمحمَّد بن خالد الدِّمشقي، وهناك جَمَاعة مُشْتركُون في هذا الاسم، فهي باطلةٌ، فإن أجَازَ لجماعة مُسَمين في الإجَازة أو غيرها، ولم يعرفهم بأعْيَانهم، ولا أنْسَابهم، ولا عَدَدهم، ولا تصفحهم، صَحَّت الإجَازة، كسماعهم منهُ في مَجْلسهِ في هذا الحَال، وأمَّا أجزتُ لمن يَشَاء فُلان، أو نحو هَذَا، ففيهِ جَهَالة وتعليق، فالأظْهر بُطْلانه، وبِهِ قَطَع القَاضي أبو الطَّيب الشَّافعي وصحَّحه ابن الفَرَّاء الحَنْبلي وابن عَمْرُوس المالكي‏.‏

الرَّابع إجَازة لمُعيَّن بمجهول من الكتب أو إجَازة بمعين من الكتب له أي لمجهول من النَّاس كأجزتُكَ كتاب السُّنن، وهو يروي كُتبًا في السُّنن أو أجزتك بعض مسموعاتي أو أجزتُ محمَّد بن خالد الدِّمشقي، وهناك جماعة مُشتركون في هذا الاسم ولا يتضح مُراده في المسألتين فهي باطلة فإن اتَّضح بقرينة فصحيحة‏.‏

فإن أجَاز لجماعة مُسَمين في الإجازة أو غيرها، ولم يعرفهم بأعيانهم، ولا أنْسَابهم، ولا عددهم، ولا تصفحهم وكذا إذا سمَّي المسؤول له ولم يعرف عينه صحَّت الإجَازة كسماعهم منهُ في مَجْلسه في هذا الحال أي‏:‏ وهو لا يعرف أعيانهم، ولا أسْمَاءهم، ولا عددهم‏.‏

وأمَّا أجزتُ لمن يشاء فُلان، أو نحو هذا ففيه جهالة وتعليق بشرط، ولذلك أُدخل في ضرب الإجَازة المَجْهُولة‏.‏

والعِرَاقي أفردهُ، كالقَسْطلاني بضرب مُستقل، لأنَّ الإجَازة المُعلَّقة قد لا يكون فيها جَهَالة، كما سيأتي‏.‏

فالأظْهر بُطْلانه للجهل، كقوله‏:‏ أجزتُ لبعض النَّاس وبه قطعَ القَاضي أبو الطَّيب الشَّافعي‏.‏

قال الخطيب‏:‏ وحُجتهم القياس على تعليق الوكالة‏.‏

وصحَّحه أي‏:‏ هذا الضَّرب من الإجَازة أبو يَعْلى ابن الفَرَّاء الحنبلي، و أبو الفضل محمد بن عُبيد الله بن عمروس المَالكي وقال‏:‏ إنَّ الجَهَالة ترتفع عند وجُود المَشيئة ويتعيَّن المُجَاز له عندها‏.‏

قال الخَطِيب‏:‏ وسمعتُ ابن الفَرَّاء يحتجُّ لذلكَ بقوله صلى الله عليه وسلم لمَّا أمَّر زيدًا على غزوة مُؤتة‏:‏ «فإنْ قُتلَ زيدٌ، فجعفر، فإن قُتلَ جعفر فابنُ رَوَاحة»‏.‏ فعلَّق التأمير‏.‏

قال‏:‏ وسمعتُ أبا عبد الله الدَّامغاني يُفرِّق بينها وبين الوكَالة، بأن الوكيل يَنْعزل بعزل المُوكل له، بخلاف المُجَاز‏.‏

قال العِرَاقيُّ‏:‏ وقد استعمل ذلك من المُتقدِّمين‏:‏ الحافظ أبو بكر بن أبي خَيْثمة صاحب «التاريخ» وحفيد يعقُوب بن شيبة‏.‏

فإن عُلِّقت بمشيئة مُبهم، بطلت قطعًا‏.‏

ولو قال‏:‏ أجَزتُ لمن يَشَاء الإجَازة، فهو كأجَزتُ لمن يَشَاء فُلانٌ، وأكثر جَهَالة، ولو قال‏:‏ أجَزتُ لمن يَشَاء الرِّواية عنِّي، فأوْلَى بالجَوَاز، لأنَّه تصريحٌ بمُقْتضَى الحَالِ، ولو قال‏:‏ أجَزتُ لفلان كذا إنْ شَاء روايتهُ عنِّي، أو لكَ إنْ شئتَ أو أحْبَبتَ، أو أردتَ فالأظْهر جَوَازه‏.‏

ولو قال‏:‏ أجزتُ لمن يشاء الإجازة، فهو كأجزتُ لمن يشاء فُلان في البُطْلان، بل وأكثر جهالة وانتشارًا من حيث إنَّها مُعلَّقة بمشيئة من لا يحصر عددهم‏.‏

ولو قال‏:‏ أجزتُ لمن يشاء الرِّواية عنِّى، فأولى بالجَوَاز، لأنَّه تصريح بمُقتضى الحال من حيث أنَّ مقتضى كل إجازة تفويض الرِّواية بها إلى مشيئة المُجَاز له، لا تعليق في الإجَازة، وقاسهُ ابن الصَّلاح على‏:‏ بعتُكَ إن شئت‏.‏

قال العِرَاقي‏:‏ لكن الفرق بينهما تعيين المُبْتاع، بخلافه في الإجَازة فإنَّه مُبْهم‏.‏

قال‏:‏ والصَّحيح فيه عدم الصحة، قال‏:‏ نعم وزانه هنا أجزتُ لك أن تروي عنِّي إن شئت الرِّواية عنِّي، قال‏:‏ والأظهر الأقوى هُنَا الجَوَاز، لانتفاء الجَهَالة، وحقيقة التَّعليق‏.‏ انتهى‏.‏

وكذا قال البَلْقيني في «محاسن الاصطلاح» وأيَّد البُطْلان في المسألة الأولى، ببطلان الوصية والوكالة فيما لو قال‏:‏ وصَّيت بهذه لمن يشاء، أو وكلت في بيعها من شاء أن يبيعها‏.‏ قال‏:‏ وإذا بطلَ في الوصية، مع احتمالها ما لا يحتمله غيرها، فهنا أولى‏.‏

ولو قال‏:‏ أجزتُ لفلان كذا إن شَاء روايته عنِّي، أو لك، إن شئتَ، أو أحببتَ أو أردت، فالأظهر جَوَازه كما تقدَّم‏.‏

الخامس‏:‏ الإجَازةُ للمعدُوم، كأجزتُ لمن يُولد لفُلان، واختلفَ المُتأخِّرون في صحَّتها، فإن عَطَفه على موجُود، كأجزتُ لفُلان، ومن يُولد له، أو لكَ ولعَقِبكَ ما تَنَاسلُوا، فأوْلَى بالجَوَاز، وفعل الثَّاني من المٌحَدِّثين أبو بكر بن أبي داود، وأجَازَ الخَطيب الأوَّل، وحكاهُ عن ابن الفَرَّاء وابن عمرُوس، وأبْطَلهَا القَاضي أبو الطَّيب وابن الصبَّاغ الشَّافعيان، وهو الصَّحيح الَّذي لا ينبغي غيره‏.‏

الخامس‏:‏ الإجَازة للمعدوم، كأجزتُ لمن يُولد لفلان، واختلف المتأخِّرون في صحتها، فإن عطفهُ على موجود، كأجزتُ لفُلان ومن يُولد له، أو لك ولولدك ولعقبك ما تَنَاسلُوا، فأولَى بالجَوَاز ممَّا إذا أفرده بالإجَازة، قياسًا على الوقف‏.‏

وفعل الثَّاني من المُحدِّثين الإمام أبو بكر عبد الله بن أبي داود السِّجستاني، فقال وقد سُئل الإجَازة‏:‏ قد أجزت لكَ، ولأولادك، ولحبل الحبلة‏.‏ يعني الَّذين لم يُولدوا بعد‏.‏

قال البَلْقيني‏:‏ ويُحتمل أن يَكُون ذلك على سبيل المُبَالغة، وتأكيد الإجَازة، وصرَّح بتصحيح هذا القسم القَسْطلاني في «المنهج»‏.‏

وأجَاز الخَطيب الأوَّل أيضًا وألَّف فيها جُزءا، وقال‏:‏ إنَّ أصحاب مالك وأبي حنيفة أجَازُوا الوقف على المعدُوم، وإن لم يكن أصله موجودًا‏.‏

قال‏:‏ وإن قيلَ‏:‏ كيف يصح أن يَقُول‏:‏ أجَازني فُلان، ومولده بعد موته، يُقَال‏:‏ كما يصح أن يقول‏:‏ وقف على فُلان، ومولده بعد موته‏.‏

قال‏:‏ ولأنَّ بُعد أحد الزَّمانين من الآخر، كبعد أحد الوطنين من الآخر‏.‏

وحكاه أي الصحَّة، فيما ذكر عن ابن الفَرَّاء الحنبلي وابن عمرُوس المالكي، ونسبه عياض لمُعظم الشيوخ‏.‏

وأبْطَلها القَاضي أبو الطَّيب وابن الصَّباغ الشَّافعيان، وهو الصَّحيح الَّذي لا ينبغي غيره لأنَّ الإجَازة في حُكم الإخبار جملة بالمُجَاز، فكما لا يصح الإخبار للمعدُوم، لا تصح الإجَازة له‏.‏

أمَّا إجَازة من يُوجد مُطلقًا، فلا يَجُوز إجْمَاعًا‏.‏

وأمَّا الإجَازة للطِّفل الَّذي لا يُمَيِّز، فَصحيحةٌ على الصَّحيح، الَّذي قطعَ به القَاضي أبو الطَّيب والخَطِيب خِلافًا لبعضهم‏.‏

وأمَّا الإجَازة للطِّفل الَّذي لا يُميِّز فصحيحةٌ، على الصَّحيح، الَّذي قطعَ به القاضي أبو الطَّيب والخطيب ولا يُعتبر فيه سِنٌّ ولا غيرهُ خِلافًا لبعضهم حيث قال‏:‏ لا يصح، كما لا يصح سماعه، ولمَّا ذكر ذلك لأبي الطَّيب قال‏:‏ يصح أن يُجيز للغائب، ولا يصح سماعهُ‏.‏

قال الخطيب‏:‏ وعلى الجَوَاز كافة شُيوخنا، واحتجَّ له بأنَّها إبَاحة المُجيز، للمُجَاز له أن يروى عنه، والإباحة تصح للعاقل ولغيره‏.‏

قال ابن الصَّلاح‏:‏ كأنَّهم رأوا الطِّفل أهلاً لتحمُّل هذا النَّوع، ليؤدي به بعد حُصول الأهلية، لبقاء الإسْنَاد، وأمَّا المُميِّز فلا خلاف في صحَّة الإجَازة له‏.‏

تنبيه‏:‏

أدمجَ المُصنِّف كابن الصَّلاح مَسْألة الطِّفل في ضرب الإجَازة للمعدُوم، وأفردهَا القَسْطلاني بنوع، وكذا العِرَاقي، وضمَّ إليها الإجَازة للمجنُون، والكافر، والحمل‏.‏

فأمَّا المجنُون فالإجَازة له صحيحة، وقد تقدَّم ذلك في كلام الخطيب‏.‏

وأمَّا الكافر فقال‏:‏ لم أجد فيه نقلاً، وقد تقدَّم أنَّ سَماعهُ صحيح، قال‏:‏ ولَمْ أجد عن أحد من المُتقدِّمين والمتأخِّرين الإجَازة للكافر، إلاَّ أنَّ شخصًا من الأطباء يُقَال له مُحمَّد بن عبد السَّيد، سمع الحديث في حال يهوديته على أبي عبد الله الصُّوري، وكتب اسمهُ في الطَّبقة مع السَّامعين، وأجَاز الصُّوري لهم، وهو من جُملتهم، وكان ذلك بحضُور المِزِّي، فلولا أنَّه يرى جَوَاز ذلك ما أقرَّ عليه، ثمَّ هدى الله هذا اليهودي إلى الإسْلام، وحدَّث وسمع منه أصحابنا‏.‏

قال‏:‏ والفاسق والمُبْتدع أولى بالإجَازة من الكافر، ويؤديان إذا زالَ المانع‏.‏

قال‏:‏ وأمَّا الحمل، فلم أجد فيه نقلاً، إلاَّ أنَّ الخَطِيب قال‏:‏ لم نرهم أجَازُوا لمن لم يَكُن مولودًا في الحال، ولم يتعرَّض لكونه إذَا وقع يصح أولا‏.‏

قال‏:‏ ولا شكَّ أنَّه أوْلَى بالصحَّة من المعدُوم‏.‏

قال‏:‏ وقد رأيتُ شيخنَا العلائي سُئل لحمل مع أبويه فأجَاز، واحترز أبو الثناء المِنْبجي، فكتبَ أجزتُ للمُسْلمين فيه‏.‏

قال‏:‏ ومن عَمَّم الإجَازة للحمل وغيره أعلم وأحفظ وأتقن، إلاَّ أنَّه قد يُقَال لعلَّه ما تصفح أسماء الاسْتدعاء حتَّى يعلم هل فيه حمل أم لا، إلاَّ أنَّ الغَالب أنَّ أهل الحديث لا يُجيزون إلاَّ بعد تصفحهم‏.‏

قال‏:‏ ويَنْبغي بناء الحُكْم فيه على الخِلاف في أنَّ الحمل هل يُعلم أو لا‏؟‏ فإن قُلنا يُعلم وهو الأصح صحَّت الإجَازة له، وإن قُلنا لا يُعلم، فيَكُون كالإجَازة للمعدُوم‏.‏ انتهى‏.‏

وذكر ولدهُ الحافظ ولي الدِّين أبو زُرْعة في فَتَاويه المَكية، وهي أجْوبة أسئلة، سألهُ عنها الحافظ أبو الفَضْل الهَاشمي أنَّ الجَوَاز فيما بعد نفخ الرُّوح أوْلَى، وأنَّها قبل نفخ الرُّوح مُرتبة مُتوسطة بينها وبين الإجَازة للمعدُوم، فهي أوْلَى بالمَنْع من الأولى وبالجَوَاز من الثَّانية‏.‏

السَّادس‏:‏ إجَازةُ ما لم يتحمَّلهُ المُجيز بوجهٍٍ، ليرويهُ المُجَاز إذَا تحمَّلهُ المُجيز، قال القَاضي عياض‏:‏ لَمْ أرَ من تكلَّم فيهِ، ورأيتُ بعضَ المُتأخِّرين يَصْنعونهُ، ثمَّ حَكَى عن قَاضي قُرْطُبة أبي الوَليدِ مَنْع ذلك، قال عياض‏:‏ وهو الصَّحيح، وهذا هو الصَّوابُ‏.‏

السَّادس‏:‏ إجَازة ما لم يتحمَّله المُجيز بوجه من سماع أو إجازة ليرويهُ المُجَاز له إذا تحمَّله المُجيز، قال القاضي عياض في كتابه «الإلماع»‏:‏ هذا لم أر من تكلَّم فيه من المشايخ‏.‏

قال‏:‏ ورأيتُ بعض المتأخِّرين والعصريين يصنعونه، ثمَّ حكى عن قاضي قُرطبة أبي الوَليد يُونس بن مغيث منع ذلك لما سأله وقال‏:‏ يُعطيك ما لم يأخذ‏؟‏ هذا مُحَال‏.‏

قال عياض‏:‏ و هذا هو الصَّحيح فإنَّه يُجيز ما لا خبر عنده منه، ويأذن له بالتَّحديث بما لم يحدث به، ويُبيح ما لم يعلم هل يصح له الإذن فيه‏.‏

قال المُصنِّف‏:‏ وهذا هو الصَّواب‏.‏

قال ابن الصَّلاح‏:‏ وسَواء قُلنا‏:‏ إنَّ الإجَازة في حُكم الإخبار بالمُجَاز جُملة أو إذن، إذ لا يُجيز بما لا خبر عندهُ منهُ، ولا يُؤذن فيما لم يملكهُ الآذن بعد، كالإذن في بَيْع ما لم يملكه، وكذا قال القَسْطلاني‏:‏ الأصح البُطْلان، فإنَّ ما رواهُ داخلٌ في دائرة حصر العلم بأصله، بخلاف ما لم يروه، فإنَّه لم يَنْحصر‏.‏

فَعَلَى هذا يَتعيَّنُ على من أرادَ أنْ يروي عن شيخٍ أجَاز له جميع مَسْمُوعاته أن يبحثَ حتَّى يعلم أنَّ هَذَا مِمَّا تحمَّلهُ شيخهُ قبل الإجَازة، وأمَّا قولُهُ‏:‏ أجزتُ لكَ ما صحَّ، أو يصح عندكَ من مَسْمُوعَاتي، فصحيحٌ تَجُوزُ الرِّواية به لِمَا صحَّ عندهُ سماعُهُ له قبل الإجَازة، وفعلهُ الدَّارقُطني وغيرهُ‏.‏

السَّابع‏:‏ إجَازةُ المُجَاز، كأجزتُكَ مُجَازاتي، فمنعهُ بعضُ من لا يُعتدُّ بهِ‏.‏

قال المُصنِّف كابن الصَّلاح فعلى هذا يتعيَّن على من أرادَ أن يروي عن شيخ أجَاز له جميع مَسْمُوعاته أن يبحث حتَّى يعلم أنَّ هذا مِمَّا تحملهُ شيخه قبل الإجَازة له‏.‏

وأمَّا قوله‏:‏ أجزتُ لك ما صحَّ، أو يصح عندكَ من مسموعاتي، فصحيحٌ تجوز الرِّواية به، لما صحَّ عنده بعد الإجَازة سماعهُ له قبل الإجَازة، وفعله الدَّارقُطْني وغيره‏.‏

قال العِرَاقي‏:‏ وكذا لو لم يَقُل ويصح، فإنَّ المُرَاد بقوله‏:‏ ما صحَّ حال الرِّواية، لا الإجَازة‏.‏

السَّابع‏:‏ إجَازة المُجَاز، كأجزتك مُجَازاتي أو جميع ما أجيز روايته فمنعهُ بعض من لا يعتد به وهو الحافظ أبو البركات عبد الوهَّاب بن المُبَارك الأنْمَاطي شيخ ابن الجَوْزي، وصنَّف في ذلك جُزءًا، لأنَّ الإجَازة ضعيفة فيقوَّى الضعف باجتماع إجَازتين‏.‏

والصَّحيح الَّذي عليهِ العمل جَوَازُه، وبه قطعَ الحُفَّاظ الدَّارقُطْني، وابن عُقْدة، وأبو نُعيم، وأبو الفَتْح نَصْر المَقْدسي، وكان أبو الفَتْح يروي بالإجَازة عن الإجَازة، وربَّما والَى بين ثلاثٍ، وينبغي للرَّاوي بها تأمُّلهَا، لئلاَّ يروي ما لم يدخُل تحتَهَا، فإن كَانت إجَازةُ شَيخِ شَيْخهِ‏:‏ أجزتُ له ما صحَّ عندهُ من سَمَاعي، فرأى سَمَاعَ شيخِ شَيْخهِ، فليسَ لهُ روايتهُ عن شيخهِ عنهُ، حتَّى يَعرفَ أنَّه صحَّ عندَ شيخهِ كونهُ من مَسْموعات شَيْخهِ‏.‏

والصَّحيح الَّذي عليه العمل جَوَازه، وبه قطع الحُفَّاظ أبو الحسن الدَّارقُطْني و أبو العَّباس ابن عُقْدة، وأبو نُعيم الأصْبَهاني وأبو الفتح نصر المَقْدسي وفعله الحاكم، وادَّعى ابن طاهر الاتِّفاق عليه‏.‏

وكان أبو الفتح نصر المَقْدسي يروي بالإجَازة عن الإجَازة، وربَّما والَى بين ثلاث إجَازات، وكذلك الحافظ أبو الفتح بن أبي الفَوَارس، والَى بين ثلاث إجَازات، ووالَى الرَّافعي في أمَاليه بين أرْبع أجَائز، والحافظ قُطْب الدِّين الحَلَبي بين خَمْس أجَائز في «تاريخ مصر» وشيخ الإسْلام في أماليه بين ست‏.‏

وينبغي للرَّاوي بها أي بالإجَازة عن الإجَازة تأمُّلها أي تأمَّل كيفية إجَازة شيخ شيخه لشيخه، ومُقْتضَاها لئلا يروي بها ما لم يدخُل تحتها فربَّما قيَّدها بعضهم بما صحَّ عند المُجَاز لهُ أو بما سمعهُ المُجِيز ونحو ذلك‏.‏

فإن كانت إجَازةُ شيخ شيخه‏:‏ أجزتُ له ما صحَّ عنده من سَمَاعي، فرأى سماع شيخ شيخه، فليس له روايته عن شيخه عنهُ، حتَّى يعرف أنَّه صحَّ عند شيخه، كونه من مسموعات شيخه وكذا إن قيَّدها بما سمعهُ لم يعتد إلى مُجَازاته وقد زلَّ غير واحد من الأئمة بسبب ذلك‏.‏

قال العِرَاقي‏:‏ وكان ابن دقيق العيد لا يُجيز رِوَاية سماعه كله، بل يُقيده بما حدَّث به من مَسْموعاته، هكذا رأيتهُ بخطِّه، ولم أر له إجَازة تَشْتمل مسموعه، وذلك أنَّه كان شك في بعض سَمَاعاته، فلم يُحدِّث به ولم يُجزه، وهو سَمَاعه على ابن المُقير، فمن حدَّث عنهُ بإجَازته منهُ بشيء مِمَّا حدَّث به من مَسْمُوعاته فهو غير صحيح‏.‏

قلتُ‏:‏ لكنَّه كان يُجيز مع ذلكَ جميع ما أُجيز له، كما رأيتهُ بخط أبي حيَّان في النضار، فعلَى هذا لا تتقيَّد الرِّواية عنهُ بما حدَّث به من مَسْمُوعاته فقط، إذ يدخل الباقي فيما أُجيز له‏.‏

فَرْعٌ‏:‏ قال أبو الحُسين بن فَارس‏:‏ الإجَازةُ مَأخُوذةٌ من جَوَاز المَاء الَّذي تُسْقاهُ المَاشيةُ والحَرْثُ، يُقَال‏:‏ اسْتجزتهُ فأجَازَني، إذَا أسْقَاكَ ماء لماشيتكَ وأرضكَ، كذا طالبُ العلم يَسْتجيزُ العَالمَ عِلْمهُ فيُجيزهُ، فعلى هذا يَجُوز أن يُقَال‏:‏ أجزتُ فُلانًا مَسْمُوعَاتي، ومن جعلَ الإجَازةَ إذْنًا- وهو المعروف- يقول‏:‏ أجَزتُ لهُ رِوَاية مَسْمُوعاتي‏.‏

فرعٌ‏:‏ قال أبو الحُسين أحمد بن فارس اللغوي الإجازة في كلام العرب مأخُوذة من جَوَاز المَاء الَّذي تُسْقَاهُ المَاشية والحَرْث، يُقَال منه استجزتهُ فأجَازني، إذا أسْقَاك ماء لماشيتك وأرضك‏.‏

قال‏:‏ كذا طالب العلم، يَسْتجيز العالم أي يسأله أن يُجيزه علمه فيُجيزه إيَّاه‏.‏

قال ابن الصَّلاح‏:‏ فعلى هذا يَجُوز أن يُقَال‏:‏ أجزتُ فُلانًا مَسْمُوعاتي أو مَرْوياتي مُتعديًا بغير حرف جر، من غير حاجة إلى ذكر لفظ الرِّواية‏.‏

ومن جعل الإجَازة إذنًا وإباحة وتسويغًا وهو المعرُوف يقول‏:‏ أجَزتُ له رواية مَسْمُوعاتي‏.‏

ومَتَى قال‏:‏ أجَزتُ له مَسْمُوعَاتي، فعلى الحذف كَمَا في نَظَائره، قالوا‏:‏ إنَّما تُستحسن الإجَازة إذَا عَلِمَ المُجيز ما يُجيز، وكان المُجَاز من أهل العِلْم واشْتَرطهُ بعضهُم، وحُكيَ عن مالك، وقال ابنُ عبد البرِّ‏:‏ الصَّحيح أنَّها لا تَجُوز إلاَّ لماهرٍ بالصِّنَاعة، وفي مُعيَّن لا يُشْكل إسْنَادهُ، وينبغي للمُجِيز كِتَابةً أن يتلفَّظ بها، فإن اقْتَصرَ على الكِتَابة معَ قَصْد الإجَازةِ صَحَّت‏.‏

ومتى قال‏:‏ أجزتُ له مسمُوعاتي، فعلى الحذف كمَا في نَظَائره‏.‏

وعبارةُ القَسْطلاني في «المنهج»‏:‏ الإجَازة مُشتقة من التجوُّز، وهو التعدي، فكأنَّه عدى روايته حتَّى أوصلها للرَّاوي عنهُ‏.‏

قالوا‏:‏ إنَّما تُسْتحسن الإجَازة إذا علم المُجيز ما يُجِيزه، وكان المُجَاز له من أهل العلم أيضًا، لأنَّها توسع وترخيص يتأهَّل له أهل العلم، لمسيس حاجتهم إليها‏.‏

قال عيسى بن مِسْكين‏:‏ الإجَازة رأس مالٌ كبير‏.‏

واشترطهُ بعضهم في صحَّتها فبالغ وحكي عن مالك حكاهُ عنه الوليد بن بكر من أصْحَابه‏.‏

وقال ابن عبد البر‏:‏ الصَّحيح أنَّها لا تَجُوز إلاَّ لمَاهر بالصِّناعة وفي شيء مُعين لا يُشْكل إسناده‏.‏

وينبغي للمُجيز كِتَابة أي‏:‏ بالكِتَابة أن يتلفَّظ بها أي‏:‏ بالأجازة أيضًا فإن اقتُصر على الكتابة ولم يتلفَّظ مع قصد الإجازة صحَّت لأنَّ الكتابة كناية، وتكون حينئذ دون الملفُوظ بها في الرُّتبة، وإن لم يقصد الإجَازة‏.‏

قال العِرَاقيُّ‏:‏ فالظَّاهر عدم الصحَّة‏.‏

قال ابن الصَّلاح‏:‏ وغير مُستبعد تصحيح ذلك بمجرد هذه الكتابة في باب الرِّواية، الَّتي جعلت فيه القِرَاءة على الشَّيخ، مع أنَّه لم يتلفَّظ بما قرئ عليه إخبارًا منه بذلك‏.‏

تنبيه‏:‏

لا يشترط القبول في الإجَازة، كما صرَّح به البلقيني‏.‏

قلت‏:‏ فلو ردَّ، فالذي ينقدح في النَّفس الصحة، وكذا لو رجع الشَّيخ عن الإجَازة ويُحتمل أن يُقَال‏:‏ إن قُلنا الإجَازة إخْبَار لم يَضُر الرد ولا الرجوع، وإن قُلنا إذن وإبَاحة ضرَّا، كالوقف والوكالة، ولكن الأوَّل هو الظَّاهر، ولم أر من تعرَّض لذلك‏.‏

فائدةٌ‏:‏

قال شيخنا الإمام الشَّمني‏:‏ الإجَازة في الاصطلاح إذنٌ في الرِّواية لفظًا، أو خطًّا، يُفيد الإخبار الإجمالي عُرفًا، وأركانها أربعة‏:‏ المُجيز، والمُجَاز له، والمُجَاز به، ولفظ الإجَازة‏.‏

القسم الرَّابع‏:‏ المُنَاولة

القسم الرَّابع من أقْسَام التحمُّل المُنَاولة والأصلُ فيها ما علَّقه البُخَاري في العلم‏:‏ أنَّ رَسُول الله صلى الله عليه وسلم كتبَ لأمير السَّرية كتابًا وقال‏:‏ «لا تَقْرأه حتَّى تبلُغَ مكان كَذَا وكذا»‏.‏ فلمَّا بلغ ذلك المكان قرأهُ على النَّاس وأخبرهُم بأمر النَّبي صلى الله عليه وسلم‏.‏

وصلهُ البَيْهقي والطَّبراني بسندٍ حسن‏.‏

قال السُّهيلي‏:‏ احتجَّ به البُخَاري على صِحَّة المُنَاولة، فكذلك العالم إذا نَاولَ التلميذ كتابًا، جاز له أن يروي عنه ما فيه، قال‏:‏ وهو فقهٌ صحيح‏.‏

قال البَلْقيني‏:‏ وأحسن ما يُستدل به عليها، ما استدلَّ به الحاكم من حديث ابن عبَّاس‏:‏ أنَّ رَسُول الله صلى الله عليه وسلم بعثَ بكتَابهِ إلى كِسْرَى مع عبد الله بن حُذَافة، وأمرهُ أن يدفعهُ إلى عظيم البَحْرين، ويدفعهُ عظيمُ البَحْرين إلى كِسْرَى‏.‏

وفي «معجم» البَغَوي، عن يزيد الرَّقَاشي قال‏:‏ كُنَّا إذا أكثرنا على أنس بن مالك، أتَانَا بمجال له، فألقاها إلينا وقال‏:‏ هذه أحاديث سمعتها من رَسُول الله صلى الله عليه وسلم وكتبتُها وعرضتها‏.‏

وهي ضَرْبان‏:‏ مَقْرُونة بالإجَازة، ومُجَرَّدةٌ‏.‏

فالمقرُونة أعْلَى أنواع الإجَازة مُطْلقًا، ومن صُوَرها أن يَدْفع الشَّيخ إلى الطَّالب أصْلَ سَمَاعهِ، أو مُقَابلاً به، ويَقُول‏:‏ هذا سَمَاعي، أو راويتي عن فُلانٍ فَارْوهِ، أو أجَزتُ لكَ روايتهُ عنِّي، ثمَّ يُبْقيهِ معهُ تمليكًا، أو لينسخهُ، أو نحوهُ‏.‏

وهي ضربان‏:‏ مقرونة بالإجازة، ومجردة عنها‏.‏

فالمَقْرونة بالإجَازة أعْلَى أنواع الإجَازة مُطْلقًا ونقل عياض الاتِّفاق على صحَّتها‏.‏

ومن صُورها وهو أعْلاها كما صرَّح به عياض وغيره أن يَدْفع الشَّيخ إلى الطَّالب أصل سَمَاعه أو فرعًا مُقَابلا به ويقول له هذا سَمَاعي، أو روايتي عن فُلان أو لا يسميه، ولكن اسمه مذكور في الكتاب المُنَاول فَارْوه عنِّي أو أجَزتُ لكَ روايته عنِّي ثمَّ يُبقيه معهُ تمليكًا، أو لينسخهُ ويُقَابل به ويرده أو نحوه‏.‏

ومنها‏:‏ أن يَدْفع إليه الطَّالبُ سَمَاعه، فيتأمَّله الشَّيخ وهو عارفٌ مُتيقِّظٌ، ثمَّ يُعيدُه إليه ويقول‏:‏ هو حَدَيثي، أو رِوَايتي، فاروهِ عَنِّي، أو أجَزتُ لك روايتهُ، وهذا سَمَّاه غيرُ واحدٍ من أئمة الحديث عَرْضًا، وقد سَبَقَ أنَّ القِرَاءة عليه تُسمَّى عَرْضًا، فليُسم هذا عَرْض المُنَاولة، وذاكَ عرض القِرَاءة، وهذه المُنَاولة كالسَّماع في القُوَّة عند الزُّهْري، ورَبِيعة، ويحيى بن سعيد الأنصاريِّ، ومُجَاهد، والشَّعبي، وعَلْقمة، وإبراهيم، وأبي العَالية، وأبي الزُّبير، وأبي المُتوكِّل، ومالك، وابن وهب، وابن القَاسم، وجَمَاعات آخرين‏.‏

ومنها‏:‏ أن يدفع إليه أي‏:‏ إلى الشَّيخ الطَّالب سَمَاعه أي سماع الشَّيخ أصلاً أو مُقَابلا به فيتأمَّله الشَّيخ وهو عارفٌ مُتيقِّظ، ثمَّ يعيدهُ إليه أي‏:‏ يُناوله للطَّالب ويقول له هو حَدِيثي، أو روايتي عن فُلان، أو عمَّن ذكر فيه فاروهِ عنِّي، أو أجَزتُ لك روايته، وهذا سمَّاه غير واحد من أئمة الحديث عرضًا وقد سبقَ أن القِرَاءة عليه تُسمَّى عرضًا، فليُسم هذا عرض المُنَاولة، وذاك عرض القِرَاءة‏.‏

وهذه المُنَاولة كالسَّماع في القُوة والرُّتبة عند الزُّهري، وربيعة، ويحيى بن سعيد الأنصاري من المدنيين ومُجَاهد المَكِّي، والشَّعبي، وعلقمة، وإبراهيم النَّخْعيان من الكُوفيين وأبي العالية البَصْري وأبي الزُّبير المكي وأبي المُتوكِّل البصري ومالك من أهل المدينة وابن وهب، وابن القَاسم وأشْهب من أهل مِصْر وجَمَاعات آخرين من الشَّاميين والخُرَاسانيين، وحكاهُ الحاكم عن طائفة من مشايخه‏.‏

قال البَلْقينيُّ‏:‏ وأرفع من حُكِيَ عنه من المَدَنيين ذلك‏:‏ أبو بكر بن عبد الرَّحمن، أحد الفُقَهاء السَّبعة، وعِكْرمة مولى ابن عبَّاس‏.‏

ومن دونه‏:‏ العلاء بن عبد الرَّحمن، وهِشَام بن عُروة، ومحمَّد بن عَمرو بن عَلْقمة‏.‏

ومن دونهم‏:‏ عبد العزيز بن محمَّد بن أبي عُبيد‏.‏

ومن أهل مَكَّة‏:‏ عبد الله بن عُثمان بن خُثَيم، وابن عُيينة، ونافع الجُمَحي وداود العطَّار، ومسلم الزِّنجي‏.‏

ومن أهل الكُوفة‏:‏ أبو بُرْدة الأشْعري، وعليِّ بن ربيعة الأسَدي، ومنصور بن المُعْتمر، وإسرائيل، والحسن بن صالح، وزُهير، وجابر الجُعفي‏.‏

ومن أهل البَصْرة‏:‏ قَتَادة، وحُميد الطَّويل، وسعيد بن أبي عَرُوبة، وكَهْمس، وزياد بن فيرُوز، وعلي بن زيد بن جُدْعان، وداود بن أبي هِنْد، وجَرِير بن حازم، وسُليمان بن المُغيرة‏.‏

ومن المِصْريين‏:‏ عبد الله بن عبد الحكم، وسعيد بن عُفير، ويحيى بن بُكَير، ويُوسف بن عُمر‏.‏

ونقل ابن الأثير في مُقدمة «جامع الأصُول» أنَّ بعضَ أصْحَاب الحديث جعلها أرْفع من السَّماع، لأنَّ الثِّقة بكتاب الشَّيخ مع إذنهِ، فوق الثِّقة بالسَّماع منهُ وأثبت، لما يَدْخُل من الوَهْم على السَّامع والمُسمع‏.‏

والصَّحيح أنَّها مُنْحطَّةٌ عن السَّماع والقِرَاءة، وهوَ قولُ الثَّوري، والأوْزَاعي، وابن المُبَارك، وأبي حنيفة، والشَّافعي، والبُوَيطي، والمُزَني وأحمد، وإسْحَاق، ويحيى بن يحيى‏.‏

قال الحاكمُ‏:‏ وعليه عهدنا أئمتنا، وإليه نَذْهبُ‏.‏

والصَّحيح أنَّها مُنْحطة عن السَّماع والقِرَاءة، وهو قول سُفيان الثَّوري والأوزاعي، وابن المُبَارك، وأبي حنيفة، والشَّافعي، والبويطي، والمُزَني، وأحمد، وإسحاق بن راهويه ويحيى بن يحيى وأسندهُ الرَّامهرمزي عن مالك‏.‏

قال الحاكم‏:‏ وعليه عهدنا أئمتنا، وإليه نذهب‏.‏

قال العِرَاقيُّ‏:‏ وقد اعترضَ ذكر أبي حنيفة مع هؤلاء، بأنَّ صاحب «القنية» من أصحابه، نقل عنه وعن محمَّد‏:‏ أنَّ المُحدِّث إذا أعطاهُ الكتاب، وأجاز له ما فيه، ولم يسمعه ولم يعرفه لم يَجُز‏.‏

قال‏:‏ والجواب أنَّ البُطْلان عندهما لا للمناولة والإجَازة، بل لعدم المعرفة، فإنَّ الضمير في قوله‏:‏ ولم يعرفه، إن كان للمجاز، وهو الظاهر لتتفق الضمائر، فمقتضاه أنَّه إذا عرف ما أُجيز له صحَّ، وإن كان للشَّيخ فسيأتي أن ذلك لا يجوز، إلاَّ إن كان الطَّالب موثوقا بخبره‏.‏

قلتُ‏:‏ وممَّا يعترض به في ذكر الأوزاعي، أنَّ البَيْهقي روى عنهُ في «المدخل» قال‏:‏ في العرض يَقُول‏:‏ قرأتُ، وقُرئ، وفي المُنَاولة يتدين به، ولا يحدث‏.‏

ومن صُورها‏:‏ أن يُنَاول الشَّيخ الطَّالب سماعهُ، ويُجيزهُ لهُ، ثمَّ يُمْسكهُ الشَّيخُ، وهذا دُونَ ما سبقَ، وتَجُوزُ روايتهُ إذَا وجدَ الكِتَاب، أو مُقَابلاً به، موثُوقًا بموافقته ما تَنَاولتهُ الإجَازة، كَمَا يُعتبر في الإجَازة المُجرَّدة، ولا يَظْهر في هذه المُنَاولة كبير مزية على الإجَازة المُجرَّدة في مُعيَّن‏.‏

وقال جَماعةٌ من أصْحَابِ الفِقْهِ والأصُول‏:‏ لا فَائدةَ فيها، وشُيوخُ الحديث قديمًا وحديثًا يرونَ لها مزيةً مُعتبرةً‏.‏

ومن صُورها‏:‏ أن يُناول الشَّيخ الطَّالب سماعه، ويجيزه له، ثم يُمسكه الشَّيخ عنده ولا يُبقيه عند الطَّالب وهذا دُون ما سبق لعدم احتواء الطَّالب على ما يحمله وغيبته عنه وتَجُوز روايته عنه إذا وجد ذلك الكِتَاب المُنَاول له، مع غَلْبة ظنه بسلامته مع التغيير أو وجد فرعًا مُقَابلاً به موثوقًا بموافقته ما تناولته الإجَازة كما يعتبر ذلك في الإجَازة المجرَّدة عن المُنَاولة ولا يظهر في هذه المُنَاولة كبير مزية على الإجَازة المُجَرَّدة عنها في مُعيَّن من الكتب‏.‏

و قد قال جماعة من أصحاب الفقه والأصُول‏:‏ لا فائدة فيها‏.‏

وعِبَارة القاضي عياض منهم‏:‏ وعلى التَّحقيق فليسَ لها شيء زائد على الإجَازة للشَّيء المُعيَّن من التَّصانيف، ولا فرق بين إجَازته إيَّاه أن يُحدث عنه بكتاب «الموطأ» وهو غائب أو حاضر، إذ المقصود تعيين ما أجَازهُ‏.‏

و لكن شُيوخ الحديث قديمًا وحديثًا يرونَ لها مزية مُعْتبرة على الإجَازة المُعيَّنة‏.‏

ومنها‏:‏ أن يأتيهُ الطَّالب بكتابٍ ويَقُول‏:‏ هذا روايتكَ فَنَاولنيهِ وأجِزْ لي روايتهُ، فيُجيبهُ إليه من غير نَظَرٍ فيهِ وتَحقُّق لروايتهِ، فهذا بَاطلٌ، فإن وثقَ بخبرِ الطَّالب ومعرفتهِ، اعتمدهُ وصحَّت الإجَازة، كما يَعْتمدُه في القِرَاءة، فلو قال‏:‏ حَدِّث عنِّي بما فيه إن كَانَ من حَديثي، مع بَرَاءتي من الغَلَطِ، كان جَائزًا حَسَنًا‏.‏

ومنها‏:‏ أن يأتيه الطَّالب بكتاب ويقول له هذا روايتكَ فناولنيه وأجز لي روايته، فيجيبه إليه اعتمادًا عليه من غير نظر فيه، و لا تحقُّق لروايته له فهذا باطلٌ، فإن وثق بخبر الطَّالب ومعرفته وهو بحيث يعتمد مثله اعتمدهُ وصحَّت الإجَازة والمُنَاولة كما يعتمد في القِرَاءة عليه من أصْلهِ إذا وثق بدينه ومعرفته‏.‏

قال العِرَاقي‏:‏ فإن فعل ذلكَ والطَّالب غير مَوْثُوقٌ به، ثمَّ تبين بعد ذلك بخبر من يُعتمد عليه، أنَّ ذلك كان من مَرْوياته، فهل يحكم بصحَّة الإجَازة والمُنَاولة السَّابقتين‏؟‏ لم أر من تعرَّض لذلك، والظَّاهر نعم، لزوال ما كُنَّا نخشاهُ من عدم ثقةِ المُجيز‏.‏ انتهى‏.‏

فلو قال‏:‏ حدِّث عنِّي بما فيه إن كان من حديثي مع بَرَاءتي من الغلط والوهم كان ذلك جائزًا حسنًا‏.‏

الضَّرب الثَّاني‏:‏ المُجَرَّدة، بأن يُنَاوله مُقتصرًا على‏:‏ هذا سَمَاعي، فلا تَجُوز الرِّواية بهَا على الصَّحيح، الَّذي قَالهُ الفُقَهاء وأصْحَاب الأصُول، وعَابُوا المُحدِّثين المُجَوِّزين‏.‏

الضَّرب الثاني المُنَاولة المُجَرَّدة عن الإجَازة، بأن يناوله الكِتَاب كما تقدَّم مُقتصرًا على قولهِ‏:‏ هذا سَمَاعي أو من حديثي، ولا يقول له‏:‏ ارْوهِ عنِّي ولا أجَزتُ لك روايته، ونحو ذلك فلا تَجُوز الرِّواية بها على الصَّحيح الَّذي قالهُ الفُقَهاء وأصْحَاب الأصُول وعَابُوا المُحدِّثين المُجوِّزين لها‏.‏

قال العِرَاقيُّ‏:‏ ما ذكرهُ النَّووي مُخالف لكلام ابن الصَّلاح، فإنَّه إنَّما قال‏:‏ فهذه مُنَاولة مُخْتلفة‏:‏ لا تَجُوز الرِّواية بها، وعَابهَا غير واحد من الفُقهاء والأصُوليين على المُحدِّثين الَّذين أجَازوها، وسَوَّغوا الرِّواية بها‏.‏

وحكى الخَطِيب عن طَائفة من أهل العِلْم‏:‏ أنَّهم صَحَّحوها، ومُخَالف أيضًا لما قاله جماعة من أهل الأصُول، منهم الرَّازي، فإنَّه لم يشترط الإذن، بل ولا المُنَاولة، بل إذا أشَار إلى كتاب وقال‏:‏ هذا سَمَاعي من فُلان، جاز لمن سمعه أن يرويه عنهُ، سواء ناولهُ أم لا، وسواء قال له‏:‏ ارْوهِ عنِّي أم لا‏.‏

وقال ابن الصَّلاح‏:‏ إنَّ الرِّواية بها تترجَّح على الرِّواية بمجرد إعلام الشَّيخ لما فيه من المُنَاولة، فإنَّها لا تخلُو من إشْعَار بالإذن في الرِّواية‏.‏

قلتُ‏:‏ والحديث والأثر السَّابقان أوَّل القسم يدلان على ذلك، فإنَّه ليسَ فيهما تصريح بالإذْنِ، نعم الحديث الَّذي علَّقه البُخَاري فيه ذلك، حيث قال‏:‏ لا تقرأه حتَّى تبلغ مكان كذا، فمفهومه الأمر بالقِرَاءة عند بُلوغ المَكَان‏.‏

وعندي أن يُقَال‏:‏ إن كانت المُنَاولة جَوَابًا لسؤال، كأن قال له‏:‏ ناولني هذا الكتاب لأرويه عنكَ، فناولهُ ولم يُصرِّح بالإذن، صحَّت وجاز له أن يرويه، كما تقدَّم في الإجَازة بالخطِّ، بل هذا أبْلغ، وكذا إذا قال له‏:‏ حدِّثني بما سمعت من فُلان، فقال‏:‏ هذا سَمَاعي من فُلان، كما وقع من أنس، فتصح أيضًا، وما عدَا ذلك فلا، فإن ناولهُ الكِتَاب ولم يُخبره أنَّه سَمَاعهُ، لم تَجُز الرِّواية به بالاتِّفاق، قاله الزَّركشي‏.‏

فَرْعٌ‏:‏ جوَّزَ الزُّهْريُّ، ومالك، وغيرهما، إطْلاق‏:‏ حدَّثنا وأخبرنا في الرِّواية بالمُنَاولة، وهو مُقتضَى قول من جعلها سَماعًا، وحُكيَ عن أبي نُعيم الأصْبَهاني وغيرهُ جَوَازهُ في الإجَازة المُجَرَّدة‏.‏

فرعٌ في ألفاظ الأداء لمن تحمَّل الإجازة والمُنَاولة جوَّز الزُّهْري ومالك وغيرهما كالحسن البَصْري إطلاق‏:‏ حدَّثنا وأخبرنا في الرِّواية بالمُنَاولة، وهي مُقْتضى قول من جعلها سَماعًا‏.‏

وحُكي عن أبي نُعيم الأصبهاني وغيره كأبي عبد الله المَرْزباني جَوَازه أي‏:‏ إطلاق حدَّثنا وأخبرنا في الإجَازة المُجرَّدة أيضًا وقد عِيبَا بذلك، لكن حكاهُ القاضي عياض عن ابن جُريج، وحكاهُ الوليد بن بكر عن مالك وأهل المدينة، وصحَّحه إمام الحَرَمين ولا مانع منه‏.‏

ومن اصْطلاح أبي نُعيم أن يَقُول‏:‏ أخبرنا عبد الله بن جعفر فيما قرئ عليه، ويُريد بذلك أنَّه أخبرهُ إجَازة، وأنَّ ذلك قُرئ عليه، لأنَّه لم يقل وأنا أسمع، بدليل أنَّه قد يُصرِّح بأنَّه سمعهُ بواسطة عنه، وتَارة يضم إليه، وأذن لي فيه، وهذا اصْطلاحٌ له مُوهم‏.‏

والصَّحيح الَّذي عليه الجمهُور وأهلُ التَّحري المَنْعُ، وتخصيصُهَا بعبَارةٍ مُشْعرةٍ بها‏:‏ كحدَّثنا وأخبرنا إجَازةً، أو مُنَاولةً وإجَازةً، أو إذنًا، أو في إذْنهِ، أو فيما أذنَ لي فيه، أو فيما أطْلَقَ لي رِوَايته، أو أجَازني، أو لي، أو نَاولني، أو شبهُ ذلكَ، وعن الأوزاعي تخصيصُهَا بخَبَّرنَا والقِرَاءة بأخْبَرنَا، واصْطَلح قومٌ من المُتأخِّرين على إطْلاق أنْبَأنا في الإجَازة، واختارهُ صاحب كِتَاب «الوجَازة»‏.‏

قال المُصنِّف كابن الصَّلاح‏:‏ والصَّحيح الذي عليه الجمهور وأهل التحرِّي والورع المنعُ من إطْلاق ذلك وتخصيصها بعبَارة مُشْعرة بها تبين الواقع كحدَّثنا إجَازة، أو مُنَاولة وإجازة وأخبرنا إجازة، أو مُنَاولة وإجازة، أو إذنًا، أو في إذْنهِ، أو فيما أذن لي فيه، أو فيما أطلق لي روايته، أو أجَازني، أو أجاز لي، أو ناولني، أو شبه ذلك كسوَّغ لي أن أروي عنه، وأباح لي‏.‏

وعن الأوزاعي تخصيصُهَا أي الإجَازة بخبَّرنا بالتشديد و تخصيص القراءة بأخبرنا بالهَمْزة‏.‏

قال العِرَاقي‏:‏ ولم يخل من النِّزاع، لأنَّ خبَّر، وأخبر بمعنى واحد لُغة واصْطلاحًا‏.‏

واختار ابن دقيق العيد أنَّه لا يَجُوز في الإجَازة أخبرنا، لا مُطلقًا، ولا مُقيدًا، لبُعد دلالة لفظ الإجَازة على الإخبار، إذ معناه في الوضع الإذن في الرِّواية‏.‏

قال‏:‏ ولو سمع الإسناد من الشَّيخ وناوله الكِتَاب، جاز له إطلاق‏:‏ أخبرنا، لأنَّه صدق عليه أنَّه أخبره بالكتاب، وإن كان إخْبَارًا جمليًا، فلا فرق بينهُ وبين التَّفصيلي‏.‏

واصْطَلح قومٌ من المُتأخِّرين على إطْلاق أنبأنا في الإجَازة واختارهُ أبو العبَّاس الوليد بن بكر الغمري صاحب كتاب الوجَازة في تَجْويز الإجَازة، وعليه عمل النَّاس الآن، والمعروف عند المُتقدِّمين أنَّها بمنزلة‏:‏ أخبرنا‏.‏

وحكى عياض عن شُعبة أنَّه قال في الإجَازة مرَّة‏:‏ أنبأنا، ومرة‏:‏ أخبرنا‏.‏

قال العِرَاقيُّ‏:‏ وهو بعيد عنهُ، فإنَّه كان مِمَّن لا يرى الإجَازة‏.‏

وكان البَيْهقي يقول‏:‏ أنْبَأني إجَازةً‏.‏

وقال الحَاكم‏:‏ الَّذي أختارهُ، وعَهدتُ عليهِ أكثر مَشَايخي، وأئمةُ عَصْري أن يَقُول فيما عَرضَ على المُحدِّث فأجَازهُ شِفَاهًا‏:‏ أنْبَأني، وفيما كَتبَ إليه‏:‏ كَتبَ إليَّ‏.‏

وكان البَيْهقي يَقُول‏:‏ أنْبَأني وأنبأنا إجَازة وفيه التَّصريح بالإجَازة مع رعاية اصطلاح المتأخِّرين‏.‏

وقال الحاكم‏:‏ الَّذي أختارهُ وعهدتُ عليه أكثر مشايخي، وأئمة عَصْري أن يقول فيما عرض على المحدِّث، فأجَازه شِفَاها‏:‏ أنبأني، وفيما كتب إليه‏:‏ كتب إليَّ‏.‏

واستعمل قومٌ من المتأخِّرين في الإجَازة باللَّفظ‏:‏ شَافهني، وأخبرنا مُشَافهة، وفي الإجَازة بالكِتَابة‏:‏ كتبَ إليَّ، وأخبرنا كِتَابة، أو في كتابه‏.‏

قال ابن الصَّلاح‏:‏ ولا يسلم من الإيهَام، وطرف من التَّدليس، أمَّا المُشَافهة، فَتُوهم مُشَافهته بالتَّحديث، وأمَّا الكِتَابة فَتُوهم أنَّه كتب إليه بذلك الحديث بعينه، كما كان يفعله المُتقدِّمون‏.‏

وقد نصَّ الحافظ أبو المُظفَّر الهمداني على المَنْع من ذلك للإيهام المَذْكُور‏.‏

قلت‏:‏ بعد أن صار الآن ذلك اصْطلاحًا برئ من ذلك، وقد قال القَسْطلاني بعد نقله كلام ابن الصَّلاح‏:‏ إلاَّ أنَّ العُرْف الخَاص من كَثْرةِ الاسْتعمال يَدْفع ما يتوقع من الإشْكَال‏.‏

وقَدْ قال أبو جَعْفر بن حمدان‏:‏ كُل قول البُخَاري‏:‏ قال لي، عرضٌ ومُنَاولة، وعَبَّر قومٌ عن الإجَازة بأخْبَرنا فُلان، أنَّ فُلانًا حدَّثهُ، أو أخبرهُ، واخْتَارهُ الخَطَّابي، أوحَكَاهُ، وهو ضعيفٌ‏.‏

وقد قال أبو جعفر أحمد بن حمدان النَيْسابوري كُل قول البُخَاري‏:‏ قال لي فُلان عرض ومُنَاولة وتقدَّم أنَّها مَحْمُولة على السَّماع، وأنَّها غالبًا في المُذَاكرة، وأنَّ بعضهم جعلها تعليقًا، وابن مَنْده إجَازةً‏.‏

وعبَّر قومٌ في الرِّواية بالسَّمَاع عن الإجَازة بأخبرنا فُلان، أنَّ فلانًا حدَّثه، أو أخبره فاستعملوا لفظ‏:‏ أنَّ في الإجَازة‏.‏

واخْتَارهُ الخَطَّابي، أو حكاهُ، وهو ضعيفٌ بعيدٌ عن الإشْعَار بالإجَازة، وحَكَاهُ عياض عن اختيار أبي حاتم الرَّازي، قال‏:‏ وأنْكرَ بعضهم هذا، وحقه أن يُنكر، فلا معنى له يفهم المُرَاد منه، ولا اعْتيدَ هذا الوضع في المسألة لُغَةً ولا عُرْفًا‏.‏

قال ابن الصَّلاح‏:‏ وهو فيما إذا سمع منه الإسناد فقط، وأجاز له ما رواه قريب، فإنَّ فيها إشْعَارا بوجُود أصل الأخبار، وإن أجمل المُخبر به، ولم يذكره تفصيلاً‏.‏

قلتُ‏:‏ واستعمالها الآن في الإجَازة شائعٌ كما تقدَّم في العَنْعنةِ‏.‏

واسْتعملَ المُتأخِّرون في الإجَازة الوَاقعة في رِوَاية من فوق الشَّيخ حرف‏:‏ عَنْ، فيقُولُ من سمعَ شيخًا بإجَازتهِ عن شَيْخٍ‏:‏ قرأتُ على فُلان، عن فُلانٍ‏.‏

ثمَّ إنَّ المَنْعَ من إطْلاق‏:‏ حدَّثنا وأخبرنا، لا يَزُول بإبَاحةِ المُجيز ذلكَ‏.‏

واستعملَ المُتأخِّرونَ في الإجَازة الوَاقعة، في رِوَاية من فوق الشَّيخ حرف‏:‏ عن، فيقول فيمن سمع شيخًا بإجَازته عن شيخ‏:‏ قرأتُ على فُلان، عن فُلان كما تقدَّم في العنعنة‏.‏

قال ابن مالك‏:‏ ومعنى عَنْ، في نحو رويتُ عن فُلان، وأنبأتك عن فُلان‏:‏ المُجَاوزة، لأنَّ المروى والمنبأ به، مُجَاوز لمن أخذ عنه‏.‏

ثمَّ إنَّ المَنْع من إطْلاق‏:‏ حدَّثنا وأخبرنا في الإجَازة والمُنَاولة لا يزول بإباحة المُجيز ذلك كما اعتاده قومٌ من المشايخ في إجَازاتهم لمن يُجيزون، إن شاء قال‏:‏ حدَّثنا، وإن شاء قال‏:‏ أخبرنا، لأنَّ إبَاحة الشَّيخ لا يغير بها الممنُوع في المُصْطلح‏.‏

القِسْم الخَامس‏:‏ الكِتَابة

وهي أن يكتُب الشَّيخ مَسْمُوعهُ لحاضرٍ أو غَائبٍ بخطِّه أو بأمرهِ‏.‏

وهي ضَرْبان‏:‏ مُجرَّدة عن الإجَازة، ومَقْرُونة بأجزتُكَ ما كَتبتُ لكَ، أو إليكَ، ونحوهُ من عِبَارة الإجَازة، وهذا في الصحَّة والقُوَّة كالمُنَاولة المقْرُونة، وأمَّا المُجَرَّدة فمنعَ الرِّواية بها قومٌ، منهم القَاضي المَاوردي الشَّافعي‏.‏

القِسْم الخامس من أقْسَام التحمُّل الكتابة وعبارةُ ابن الصَّلاح وغيره‏:‏ المُكَاتبة وهي أن يكتب الشَّيخ مَسْمُوعه أو شيئا من حديثه لحاضر عنده أو غائب عنه، سواء كتب بخطِّه أو كتب عنه بأمره‏.‏

وهي ضَرْبان‏:‏ مُجرَّدة عن الإجَازة، ومقرُونة بأجزتكَ ما كتبت لكَ، أو كتبت إليك، أو ما كتبت به إليك ونحوه من عِبَارة الإجَازة، وهذا في الصحَّة والقوة، كالمُنَاولة المقرونة بالإجَازة‏.‏

وأمَّا الكِتَابة المُجرَّدة عن الإجَازة فمنعَ الرِّواية بها قومٌ، منهم القَاضي أبو الحسن المَاوردي الشَّافعي في «الحَاوي» والآمدي وابن القطَّان‏.‏

وأجَازهَا كَثيرُونَ من المُتقدِّمين والمُتأخِّرين، منهم‏:‏ أيُّوب السِّخْتياني، ومنصُور، واللَّيث، وغير واحد من الشَّافعيين وأصْحَاب الأصُول، وهو الصَّحيحُ المَشْهُورِ بين أهل الحَدِيث، ويُوجد في مُصْنَّفاتهم‏:‏ كتبَ إليَّ فُلانٌ، قال‏:‏ حدَّثنا فُلانٌ، والمُرَاد به هذا، وهو مَعْمُولٌ به عِنْدهم معدُودٌ في الموصُولِ لإشْعَاره بمعنى الإجَازة، وزاد السَّمعاني فقال‏:‏ هي أقْوَى من الإجَازةِ‏.‏

وأجَازهَا كثيرون من المتقدِّمين والمتأخِّرين، منهم أيُّوب السِّخْتياني ومنصُور واللَّيث ابن سَعْد وابن أبي سَبْرة‏.‏

ورواه البَيْهقي في «المدخل» عنهم، وقال‏:‏ في الباب آثار كثيرة عن التَّابعين فمن بعدهم، وكُتب النَّبي صلى الله عليه وسلم إلى عماله بالأحكام، شَاهدة لقولهم‏.‏

وغير واحد من الشَّافعيين منهم أبو المُظفَّر السَّمعاني وأصْحَاب الأصُول منهم الرَّازي وهو الصَّحيح المشهور بين أهل الحديث، ويُوجد في مُصنَّفاتهم كثيرًا كتب إليَّ فُلان، قال‏:‏ حدَّثنا فُلان، والمُرَاد به هذا، وهو معمول به عندهم، معدُود في الموصُول من الحديث دُون المنقطع لإشْعَاره بمعنى الإجَازة، وزاد السَّمعاني فقال‏:‏ هي أقْوَى من الإجَازة‏.‏

قلتُ‏:‏ وهو المُخْتار، بل وأقْوَى من أكثر صُور المُنَاولة‏.‏

وفي «صحيح» البُخَاري في الأيمان والنذور‏:‏ وكتب إليَّ مُحمَّد بن بشَّار، وليس فيه بالمُكَاتبة عن شُيوخه غيره، وفيه وفي «صحيح» مُسلم أحاديث كثيرة بالمُكَاتبة في أثناء السَّند‏.‏

منها‏:‏ ما أخرجاه عن ورَّادٍ، قال‏:‏ كتبَ مُعَاوية إلى المُغيرة‏:‏ أن أكتُب إليَّ ما سَمِعتَ من رَسُول الله صلى الله عليه وسلم، فكتبَ إليه الحديث في القولِ عقب الصَّلاة‏.‏

وأخرجا عن ابن عَوْن، قال‏:‏ كتبت إلى نافع، فكتب إليَّ أنَّ النَّبي صلى الله عليه وسلم أغَارَ على بَنِي المُصْطلق‏.‏‏.‏‏.‏ الحديث‏.‏

وأخرجا عن سالم أبي النَّضر، عن كِتَاب رَجُل من أسْلم من أصْحَاب النَّبي صلى الله عليه وسلم كتب إليَّ عُمر بن عُبيد الله حين سارَ إلى الحَرُورية يُخْبره بحديث‏:‏ «لا تَتَمنُوا لِقَاء العَدُو»‏.‏

وأخرجا عن هِشَام قال‏:‏ كتبَ إليَّ يحيى بن أبي كثير، عن عبد الله بن أبي قَتَادة، عن أبيه مرفوعًا‏:‏ «إذَا أُقيمت الصَّلاة فلا تَقُومُوا حتَّى تروني»‏.‏

وعندَ مسلم حديث عامر بن سعد بن أبي وقَّاص، قال‏:‏ كتبتُ إلى جابر بن سَمُرة مع غُلامي نافع‏:‏ أن أخْبِرني بشيء سَمعتهُ من رَسُول الله صلى الله عليه وسلم، فكتبَ إليَّ سمعتُ رَسُول الله صلى الله عليه وسلم يوم جُمعة عَشِية رَجْم الأسْلِمي، فذكر الحديث‏.‏

ثُمَّ يَكْفي مَعْرفتهُ خط الكَاتب، ومنهُم من شَرطَ البَيِّنة وهو ضعيفٌ، ثُمَّ الصَّحيح أنَّهُ يَقُول في الرِّواية بها‏:‏ كتبَ إليَّ فُلان، قال‏:‏ حدَّثنا فُلان، أو أخْبَرني فُلان مُكَاتبة، أو كِتَابة ونحوهُ‏.‏

ثمَّ يَكْفي في الرِّواية بالكِتَابة مَعْرفته أي المكتُوب له خطِّ الكاتب وأن لم تَقُم البَيِّنة عليه‏.‏

ومنهم من شرطَ البَيِّنة عليه، لأنَّ الخط يُشبه الخط، فلا يَجُوز الاعتماد على ذلك وهو ضعيف‏.‏

قال ابن الصَّلاح‏:‏ لأنَّ ذلك نادر، والظَّاهر أنَّ خط الإنسان لا يشتبه بغيره، ولا يَقَع فيه إلْبَاس، وإن كانَ الكَاتب غير الشَّيخ فلا بد من ثُبوت كونهُ ثقة كمَا تقدَّمت الإشَارة إليه في نَوْع المُعلَّل‏.‏

ثُمَّ الصَّحيح أنَّهُ يَقُول في الرِّواية بها‏:‏ كتبَ إليَّ فُلان قال‏:‏ حدَّثنا فُلان، أو أخبرني فُلان مُكَاتبة، أو كِتَابة، أو نحوه وكذا حدَّثنا مُقيدًا بذلك‏.‏

ولا يَجُوز إطْلاق حدَّثنا وأخْبَرنا، وجوَّزه الَّليث ومنصُور وغير واحد من عُلماء المُحدِّثين وكِبَارهم‏.‏

ولا يَجُوز إطلاق حدَّثنا أو أخبرنا، وجوَّزه اللَّيث ومنصُور وغير واحد من عُلماء المُحدِّثين وكِبَارهم وجوَّز آخرون أخبرنا دون حدَّثنا‏.‏

روى البَيْهقي في «المَدْخل» عن أبي عِصْمة سعد بن مُعَاذ قال‏:‏ كُنتُ في مَجْلس أبي سُليمان الجَوْزقاني، فجَرَى ذكر حدَّثنا، وأخبرنا، فقلتُ‏:‏ إن كلاهما سواء، فقال‏:‏ بينهما فرقٌ، ألا ترى محمَّد بن الحسين قال‏:‏ إذا قال رجل لعبده‏:‏ إن أخبرتني بكذَا فأنت حُر، فكتب إليه بذلك صارَ حُرَّا، وإن قال‏:‏ إن حدَّثتني بكذا، فأنتَ حُر، فكتب إليه بذلك لا يُعتق‏.‏

القِسْمُ السَّادس‏:‏ إعْلامُ الشَّيخ الطَّالب أنَّ هذا الحديث أو الكِتَاب سَمَاعهُ مُقْتصرًا عليه

فجَوَّز الرِّوَاية به كثيرٌ من أصْحَاب الحديث والفِقْه والأُصُول والظَّاهر، منهم‏:‏ ابن جُريج، وابن الصبَّاغ الشَّافعي، وأبو العبَّاس الغَمْري – بالمعجمة- المَالكيُّ‏.‏

قال بعضُ الظَّاهرية‏:‏ لو قالَ‏:‏ هذهِ رِوَايتي، لا تَرْوهَا، كانَ لهُ روايتهَا عنهُ، والصَّحيح ما قالهُ غير واحد من المُحدِّثين وغيرهم أنَّه لا تَجُوز الرِّواية به، لكن يجب العمل بهِ إن صحَّ سَندهُ‏.‏

القسم السَّادس من أقسام التحمُّل إعلام الشَّيخ الطالب أنَّ هذا الحديث، أو الكتاب سماعه من فُلان مُقْتصرًا عليه دون أن يأذن في روايته عنه فجوَّز الرِّواية به كثيرٌ من أصحاب الحديث والفِقْه والأصُول والظَّاهر منهم‏:‏ ابن جُريج وابن الصبَّاغ الشَّافعي، وأبو العبَّاس الوليد بن بكر الغمري، بالمعجمة نسبة إلى بني الغمر، بطن من غافق المالكي ونَصَرهُ في كِتَابه «الوجازة»‏.‏

وحكاهُ عِيَاض عن الكثير، واخْتَارهُ الرَّامهُرمزي، وهو مذهب عبد الملك بن حبيب المَالكي، وجزمَ بهِ صاحب «المحصُول» وأتباعهُ، بل قال بعض الظَّاهرية‏:‏ لو قالَ‏:‏ هذه رِوَايتي وضمَّ إليه أن قال لا تروها عنِّي، أو لا أُجيزها لكَ كان له مع ذلك روايتها عنه وكذا قال الرَّامهرمزي أيضًا‏.‏

قال عياض‏:‏ وهذا صحيح لا يقتضي النَّظر سِوَاه، لأنَّ منعه أن يُحدِّث بما حدَّثه، لا لعلَّة، ولا ريبة، لا يُؤثِّر، لأنَّه قد حدَّثه، فهو شيء لا مَرْجعَ فيه‏.‏

قال المُصنِّف كابن الصَّلاح‏:‏ والصَّحيح ما قالهُ غيرُ واحد من المُحدِّثين وغيرهم‏:‏ أنَّهُ لا تَجُوز الرِّواية به‏.‏

وبه قطعَ الغزالي في «المُستصفى» قال‏:‏ لأنَّه قد لا يجوز روايته مع كونه سماعه، لخلل يعرفه فيه‏.‏

وقاس ابن الصَّلاح وغيره ذلكَ على مَسْألة اسْترعاء الشَّاهد إن تحمَّل الشَّهادة فإنَّه لا يكفي إعْلامه، بل لا بد أن يأذن لهُ أن يشهد على شهادته‏.‏

قال القاضي عياض‏:‏ وهذا القِيَاس غير صحيح، لأنَّ الشَّهادة على الشَّهادة لا تصح إلاَّ مع الإذن في كُلِّ حال، والحديث عن السَّماع والقِرَاءة لا يحتاج فيه إلى إذن باتِّفاق، وأيضًا فالشَّهادة تَفْترق من الرِّواية في أكثر الوجُوه‏.‏

وعلى المَنْعِ قال المُصنِّف كابن الصَّلاح لكن يجب العمل به أي بما أخبره الشَّيخ أنَّه سمعهُ إن صحَّ سندهُ‏.‏

وادَّعى عياض الاتِّفاق على ذلك‏.‏

القِسْم السَّابع‏:‏ الوصيَّةُ

هي أن يُوصِي عند موتهِ، أو سَفَرهِ بِكتَابٍ يرويهِ، فجوَّز بعض السَّلف للمُوصِي له روايته عنهُ، وهو غلطٌ، والصَّواب أنَّه لا يَجُوز‏.‏

القسم السَّابع من أقْسَام التحمُّل الوصية، وهي أن يُوصي الشَّيخ عند موته أو سفره لشخص بكتاب يرويه ذلك الشَّيخ فجوَّز بعض السَّلف وهو محمَّد بن سيرين، وأبو قِلاَبة للمُوصى له روايته عنه بتلك الوصيَّة‏.‏

قال القاضي عياض‏:‏ لأنَّ في دفعها له نوعًا من الإذن، وشبهًا من العرض والمُنَاولة، قال‏:‏ وهو قريب من الإعلام وهو غلطٌ‏.‏

عبارةُ ابن الصَّلاح‏:‏ وهذا بعيد جدًّا، وهو إمَّا زلُّة عالم، أو متأوِّل، على أنَّه أراد الرِّواية على سبيل الوجَادة، ولا يصح تشبيهه بقسم الإعلام والمُنَاولة، والصَّواب أنَّه لا يَجُوز‏.‏

وقد أنكرَ ابن أبي الدم على ابن الصَّلاح وقال‏:‏ الوصية أرفع رُتْبة من الوِجَادة بلا خلاف، وهي معمولٌ بها عند الشَّافعي وغيره، فهذا أوْلَى‏.‏

القِسْمُ الثَّامن‏:‏ الوِجَادة

وهي مَصْدرٌ لوجدَ، مُوَلدٌ غيرُ مَسْمُوع من العَرَبِ‏.‏

القِسْم الثَّامن ‏:‏ من أقْسَام التحمُّل الوجَادة وهي بكسر الواو مصدر لوجد، مولد غير مَسْموع من العرب‏.‏

قال المُعَافى بن زكريا النَّهرواني‏:‏ فرع المولدون قولهم‏:‏ وجادة، فيما أُخذ من العلم من صحيفة من غير سَمَاع، ولا إجَازة، ولا مُنَاولة من تفريق العرب بين مَصَادر وجد، للتَّمييز بين المَعَاني المُختلفة‏.‏

قال ابن الصَّلاح‏:‏ يعني قولهم‏:‏ وجدَ ضَالتهُ وجْدَانًا، ومَطْلوبهُ وجُودًا، وفي الغضبِ مَوْجِدَة، وفي الغنى وُجدًا، وفي الحبِّ وَجدًا‏.‏

وهيَ‏:‏ أن يقفَ على أحاديثَ بخطِّ رَاويها، لا يرويها الواجدُ، فلهُ أن يَقُول‏:‏ وجدتُ، أو قرأتُ بخطِّ فُلان، أو في كِتَابهِ بخطِّهِ، حدَّثنا فُلان، ويَسُوق الإسْنَاد والمَتْن، أو قَرَأتُ بخطِّ فُلان، عن فُلان، هذا الَّذي استقرَّ عليهِ العمل قديمًا وحديثًا، وهو من باب المُنْقطع، وفيه شَوْبُ اتِّصالٍ، وجَازف بعضُهُم، فأطْلقَ فيها حدَّثنا وأخبرنا، وأُنكرَ عليهِ‏.‏

وهي أن يقف على أحاديث بخطِّ راويها غير المُعَاصر له، أو المعاصر ولم يلقه، أو لقيه ولم يسمع منه، أو سمع منه ولكن لا يرويها أي‏:‏ تلكَ الأحاديث الخاصة الواجد عنهُ بسماع ولا إجَازة‏.‏

فلهُ أن يَقُول‏:‏ وجدتُ، أو قرأت بخطِّ فُلان، أو في كتابه بخطِّه، حدَّثنا فُلان، ويَسُوق الإسناد والمتن، أو قرأت بخطِّ فُلان عن فُلان، هذا الَّذي استقرَّ عليه العمل قديمًا وحديثا‏.‏

وفي «مسند» أحمد كثير من ذلك من رواية ابنه عنه بالوجَادة‏.‏

وهو من باب المنقطع، و لكن فيه شوب اتِّصال بقوله‏:‏ وجدتُ بخطِّ فُلان، وقد تسهَّل بعضهم فأتى فيها بلفظ‏:‏ عن فلان‏.‏

قال ابن الصَّلاح‏:‏ وذلكَ تدليسٌ قبيح إذا كان بحيث يُوهم سَمَاعهُ منه‏.‏

وجَازف بعضهم، فأطلقَ فيها حدَّثنا، وأخبرنا، وأُنكرَ عليه ولم يُجوِّز ذلك أحد يعتمد عليه‏.‏

تنبيهات‏:‏

وقع في «صحيح» مُسلم أحاديث مَرْوية بالوجَادة، وانتُقدت بأنَّها من باب المقطُوع، كقوله في الفَضَائل‏:‏ حدَّثنا أبو بكر بن أبي شَيْبة قال‏:‏ وجدتُ في كتابي، عن أبي أُسَامة، عن هِشَام، عن أبيه، عن عائشة‏:‏ إن كان رَسُول الله صلى الله عليه وسلم ليتفقَّد يقول‏:‏ «أيَن أنَا اليوم‏.‏‏.‏‏.‏» الحديث‏.‏

وروى أيضًا بهذا السَّند حديث‏:‏ قال لي رَسُول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ «إنِّي لأعْلَم إذَا كُنتِ عنِّي رَاضِية‏.‏‏.‏‏.‏»‏.‏

وحديث‏:‏ تزوَّجني لستِّ سنين‏.‏

وأجاب الرَّشيد العطَّار بأنَّه روى الأحاديث الثَّلاثة من طُرق أُخرى موصُولة إلى هِشَام، وإلى أبي أُسَامة‏.‏

قلت‏:‏ وجواب آخر، وهو أنَّ الوجَادة المُنْقطعة أن يجد في كِتَاب شيخه، لا في كتابه عن شيخهِ فتأمَّل‏.‏

وإذَا وجدَ حديثًا في تأليفِ شَخْصٍ قال‏:‏ ذكر فُلان، أو قال فُلان، أخبرنا فُلان، وهذا مُنقطعٌ لا شَوْبَ فيه، وهذا كُلهُ إذا وثق بأنَّه خطهُ، أو كتابهُ، وإلاَّ فليقُل‏:‏ بلغنِي عن فُلان، أو وجدتُ عنهُ، ونحوهُ، أو قرأتُ في كتابٍ‏:‏ أخبرني فُلان، أنَّه بخطِّ فُلان، أو ظننتُ أنَّه بخطِّ فُلان، أو ذكر كاتبه أنَّه فُلان، أو تصنيف فُلان، أو قيل‏:‏ بخطِّ، أو تصنيف فُلان‏.‏

وإذا وجد حديثا في تأليف شخص وليس بخطِّه قال ذكر فُلان، أو قال فُلان، أخبرنا فُلان، وهذا منقطع لا شوب من الاتِّصال فيه‏.‏

وهذا كُله إذا وثق بأنَّه خطه، أو كتابه، وإلاَّ فليقل‏:‏ بلغني عن فُلان، أو وجدت عنه، أو نحوه، أو قرأت في كتابه، أخبرني فُلان، أنَّه بخط فُلان، أو ظننت أنَّه بخط فُلان، أو ذكر كاتبه أنَّه فُلان، أو تصنيف فُلان، أو قيل بخط فلان أو قيل‏:‏ إنَّه تصنيف فلان ونحو ذلك من العِبَارات المُفْصحة بالمستند‏.‏

وقد تُسْتعمل الوجَادة مع الإجَازة، فيُقَال‏:‏ وجدتُ بخطِّ فُلان وأجازهُ لي‏.‏

وإذَا نَقلَ من تَصْنيفٍ، فلا يَقُل‏:‏ قال فُلان، إلاَّ إذ وثِقَ بصحَّة النُّسخة بمُقَابلتهِ، أو ثقةٍ لها، فإن لم يُوجد هذا ولا نحوهُ، فليقُل‏:‏ بلغنِي عن فُلان، أو وجدتُ في نُسْخةٍ من كِتَابه ونحوهِ، وتَسَامح أكثر النَّاس في هذه الأعْصَار بالجَزْمِ في ذلك من غير تحرٍّ، والصَّواب ما ذكرناهُ، فإن كان المُطَالع مُتقنًا لا يَخْفى عليه غَالبًا السَّاقط، أو المُغيِّر رجونَا الجَزْم له، وإلى هذا اسْتَروحَ كثيرٌ من المُصَنِّفين في نقلهم‏.‏

أمَّا العمل بالوجَادةِ، فَنُقلَ عن مُعظم المُحدِّثين المَالكين وغيرهم أنَّهُ لا يَجُوز، وعن الشَّافعي ونُظَّار أصْحَابه جَوَازه، وقطعَ بعض المُحقِّقين الشَّافعيين بوجُوب العَمَلِ بها عند حصُول الثِّقة، وهذا هو الصَّحيح الَّذي لا يتَّجهُ هذهِ الأزْمَان غيره‏.‏

وإذا نقل شيئا من تصنيف فلا يقل فيه‏:‏ قال فُلان أو ذكر بصيغة الجَزْم إلاَّ إذا وثق بصحة النُّسخة بمقابلته على أصل مُصنِّفه أو مُقابلة ثقة بها، فإن لم يوجد هذا ولا نحوه، فليقُل‏:‏ بلغني عن فُلان، أو وجدت في نسخة من كتابه ونحوه‏.‏

وتَسَامح أكثر النَّاس في هذه الأعْصَار بالجَزْم في ذلك من غير تحر وتثَبُّت فيُطالع أحدهم كتابًا منسوبًا إلى مُصنِّف مُعيَّن، وينقل منه عنه من غير أن يثقَ بصحَّة النُّسخة قائلاً‏:‏ قال فُلان، أو ذكر فُلان كذا‏.‏

والصَّواب ما ذكرناهُ، فإن كان المُطَالع عالمًا فَطِنًا متقنًا بحيث لا يَخْفى عليه غالبًا السَّاقط، أو المُغيَّر، رجونا جواز الجزم له فيما يحكيه وإلى هذا اسْتروحَ كثيرٌ من المُصنِّفين في نقلهم من كُتب النَّاس‏.‏

وأمَّا العمل بالوجَادة، فنُقل عن مُعظم المُحدِّثين والفُقهاء المَالكيين وغيرهم، أنَّه لا يَجُوز، وعن الشَّافعي ونظَّار أصْحَابه جَوَازه، وقطع بعض المُحقِّقين الشَّافعيين بوجُوب العمل بها عند حُصُول الثِّقة به وهذا هو الصَّحيح الَّذي لا يتَّجه في هذه الأزْمَان غيره‏.‏

قال ابن الصَّلاح‏:‏ فإنَّه لو توقَّف العمل فيها على الرِّواية لانسدَّ باب العمل بالمنقول لتعذُّر شُروطها‏.‏

قال البَلْقيني‏:‏ واحتجَّ بعضهم للعمل بالوجَادة بحديث‏:‏ «أيُّ الخَلْق أعْجَب إيمانًا‏؟‏» قالوا‏:‏ الملائكة‏.‏ قال‏:‏ «وكيف لا يُؤمنونَ وهُم عند ربِّهم‏؟‏» قالوا‏:‏ الأنْبَياء‏.‏ قال‏:‏ «وكيفَ لا يُؤمنونَ وهُم يأتيهم الوَحْي‏؟‏» قالوا‏:‏ نحنُ‏.‏ قال‏:‏ وكيفَ لا تُؤمنونَ وأنا بين أظْهُركُم‏؟‏» قالوا‏:‏ فمن يا رَسُول الله‏؟‏ قال‏:‏ «قومٌ يأتونَ من بعدكُم يجدونَ صُحفًا، يُؤمنونَ بمَا فيها»‏.‏ قال البَلْقينيُّ‏:‏ وهذا استنباطٌ حسن‏.‏

قلتُ‏:‏ المُحتج بذلك هو الحافظ عِمَاد الدِّين بن كثير، ذكر ذلك في أوائل «تفسيره» والحديث رواه الحسن بن عرفة في «جزئه» من طريق عَمرو بن شُعيب، عن أبيه، عن جدِّه، وله طُرقٌ كثيرة أوردتها في الأمالي‏.‏

وفي بعض ألْفَاظه‏:‏ «بل قومٌ من بعدكُم، يأتيهم كتاب بين لوحين يُؤمنونَ به، ويعملونَ بما فيه، أولئكَ أعْظم منكُم أجرًا»‏.‏ أخرجه أحمد والدَّارمي والحاكم من حديث أبي جُمْعة الأنصاري‏.‏

وفي لفظٍ للحاكم من حديث عُمر‏:‏ «يجدُون الوَرَق المُعلَّم، فيعملونَ بما فيه، فهؤلاء أفْضَل أهل الإيمان إيمَانًا»‏.‏